منصة إعلامية عربية متخصصة فاعلة في مجال الاقتصاد بروافده المتعددة؛ بهدف نشر الثقافة الاقتصادية، وتقديم المعلومات والمصادر المعرفية السليمة التي تسهم في نشر الوعي الاقتصادي، ومساعدة أصحاب القرار في اتخاذ القرارات الصائبة التي تقود الاقتصاد نحو تنمية فاعلة ومستدامة.

بورصة أبو ظبي | فوتسي

الأسهم الأمريكية | ناسداك

بورصة أبو ظبي | فوتسي

الأسهم الأمريكية | ناسداك

الرابط المختصر :

لماذا نجح التخطيط المركزي بالصين وفشل في معظم دول العالم؟

يُعد التخطيط المركزي أحد أكثر النماذج الاقتصادية التي أثارت نقاشًا واسعًا في القرن العشرين؛ إذ حاولت دول كثيرة تطبيقه باعتباره الطريق الأقرب لتحقيق التقدم السريع والتنمية الشاملة.

غير أن أغلب تلك التجارب انتهت إلى الفشل، سواء بسبب الجمود الاقتصادي أو الفساد أو الانهيار السياسي، كما حدث في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية والعديد من الدول النامية.

وبينما انهارت معظم تجارب التخطيط المركزي في العالم، استطاعت الصين أن تحول هذا النموذج إلى رافعة قوية للنمو، وأن تجعله جزءًا من “المعجزة الاقتصادية” التي نقلت البلاد من إحدى أفقر دول العالم إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي.

خصوصية النموذج الصيني

هذا التناقض يطرح سؤالًا مهمًا: لماذا نجح التخطيط المركزي في الصين بينما فشل لدى معظم الدول الأخرى؟

يبدأ الجواب من خصوصية النموذج الصيني نفسه؛ إذ لم تتبنَ بكين التخطيط المركزي بالصيغة الجامدة التي عرفتها الأنظمة الاشتراكية التقليدية؛ فمنذ الإصلاحات التي قادها دنج شياو بينج في أواخر السبعينيات، تبنَّت الصين نموذجًا هجينًا يجمع بين اقتصاد السوق وبين قيادة مركزية قوية تتحكم في الاتجاهات الاستراتيجية الكبرى.

 اقتصاد السوق الاشتراكي

هذا النموذج الذي أطلقت عليه بكين اسم “اقتصاد السوق الاشتراكي”، أتاح للحكومة أن ترسم أهدافًا بعيدة المدى، وفي الوقت نفسه سمح للشركات الخاصة والمناطق المحلية بامتلاك هامش واسع من الحرية والمرونة.

وبهذا المعنى، لم يكن التخطيط المركزي في الصين قيدًا على السوق كما كان الحال في الدول الاشتراكية التقليدية، بل إطار عام ينظم المنافسة ويحدد أولوياتها.

نموذج تخطيطي ديناميكي

العامل الثاني الذي يفسر نجاح التجربة الصينية هو قدرتها على تطوير نموذج تخطيطي ديناميكي، قائم على المراجعة المستمرة والتعديل الدائم.

في الصين لا تُعدُّ الخطط الخمسية نصوصًا جامدة، بل وثائق قابلة للتحديث كلما تغيرت الظروف. والأهم هو اعتماد سياسة “التجريب المحلي قبل التعميم”؛ حيث تختبر السياسات الاقتصادية في مناطق محددة قبل تطبيقها على المستوى الوطني.

وهي ممارسة تجنّب الدولة المركزية الأخطاء الكبرى التي ترتكبها دول أخرى تصر على تطبيق خطط مركزية غير واقعية، ولا تمتلك الشجاعة السياسية للتراجع عنها.

وقد أظهرت الصين هذه القدرة في عدة محطات، منها أثناء تباطؤ النمو عام 2015، وأزمة العقارات نتيجة “أزمة كوفيد-19″؛ إذ تحركت الدولة بسرعة لتعديل السياسات وضخ الحوافز الاقتصادية والحد من المخاطر المالية.

صلاحيات واسعة لتنفيذ المشروعات

ولا يمكن فهم نجاح التخطيط المركزي في الصين دون النظر إلى طبيعة الدولة نفسها؛ إذ تمتلك الصين جهازًا حكوميًا قويًا وصارمًا، لا يُقارن بنظيره في كثير من الدول التي اعتمدت المركزية الاقتصادية؛ فرغم سيطرة الحزب الشيوعي على التوجهات العامة، إلا أن الحكومات المحلية توفر صلاحيات واسعة لتنفيذ المشروعات وجذب الاستثمارات.

وقد خلق هذا التوزيع الذكي للصلاحيات نوعًا من “المنافسة الداخلية” بين الأقاليم والمدن؛ حيث تتسابق كل منطقة لتحقيق معدلات نمو أعلى وتطبيق سياسات أكثر فاعلية، ضمن إطار وطني موحد.

هذا التوازن بين المركزية والتفويض جعل التخطيط الصيني أكثر حيوية وقدرة على التكيّف.

تعظيم العمل الجماعي

استفادت الصين بشكل كبير من بنية اجتماعية وثقافية لمجتمع يُعظِّم العمل الجماعي، ويحترم الإجراءات الحكومية بعكس مجتمعات أخرى أكثر ميلًا للفردية أو أقل ثقة بالدولة؛ فثقافة الانضباط واحترام المؤسسة السياسية، جزء من الإرث الحضاري الصيني؛ حيث أسهما في تعزيز قدرة الحكومة على تنفيذ خطط واسعة وطويلة المدى بشكل لا مركزي؛ مثل مشروعات البنية التحتية الضخمة أو حملات مكافحة الفقر.

الأداء الاقتصادي والاجتماعي

أما العنصر الأكثر تميزًا في التجربة الصينية فهو الجهاز البيروقراطي المبني على الجدارة؛ ففي الصين لا يعتمد الترقي في المناصب على الولاء السياسي وحده، بل على الأداء الاقتصادي والاجتماعي للمسؤولين المحليين.

ويُقيَّم المحافظون والمسؤولون الإقليميون وفق معايير واضحة ترتبط بالنمو، وجذب الاستثمارات، وتحسين مستوى المعيشة؛ حيث يناقش اجتماع اللجنة المركزية السنوي تقريرًا عن أداء الرئيس فيقره أو يرفضه.

 نخبة إدارية ذات كفاءة عالية

هذا النظام الذي يشبه “الامتحان العملي” خلق نخبة إدارية ذات كفاءة عالية، قادرة على تنفيذ المشروعات الكبرى بكفاءة وسرعة، وهو ما افتقدته الدول التي فشل فيها التخطيط المركزي بسبب الفساد والمحسوبية والضعف الإداري.

إنَّ الرئيس الصيني نفسه نموذج للقادة الصينين الحاليين، وهو نجل محارب صيني مخضرم نُفِي معه إلى مقاطعة ريفية أثناء الثورة الثقافية، ثم سرعان ما انضم إلى الحزب الشيوعي كسكرتير صغير، ودرس الهندسة الكيميائية، ثم ارتقى في المناصب السياسية بالمقاطعات الساحلية.

كان حاكم ولاية من 1999 إلى 2002، ثم حاكم وأمين للحزب بمقاطعة مجاورة، ثم سكرتير الحزب بشنغهاي. وفي 2007 أُنتخِب السكرتير الأول للأمانة المركزية للحزب، ثم عُيِّن زعيمًا رئيسًا، ثم نائبًا لرئيس الجمهورية؛ حتى حصل على لقب قطب القيادة عام 2016؛ ما يعني أنه قيادة تمتلك تاريخًا حافلًا من العمل السياسي والعام في مختلف المناصب والمناطق.

استقرار السياسات الاقتصادية

لم يستفد التخطيط المركزي طويل الأجل في الصين فقط من القدرة الكبيرة على توزيع الموارد وحشد الاستثمارات، بل أيضًا من استقرار السياسات الاقتصادية؛ وهي ميزة لم تتوفر في معظم الدول التي تبنَّت المركزية الاقتصادية؛ فالحكومة الصينية لا تتبدل أولوياتها مع كل دورة سياسية؛ ما سمح بالاستثمار المستمر في البنية التحتية والتعليم والتكنولوجيا والطاقة لعقود متتالية.

استقرار استراتيجي

وقد ساهم هذا الاستقرار الاستراتيجي في بناء قاعدة اقتصادية صلبة لم يكن بالإمكان تحقيقها في بيئة سياسية متقلبة، كما هو الحال لدى دول أخرى؛ لذا تُعد عنصرًا أساسًا في نجاح التخطيط المركزي؛ لأنها تضمن توجيه الجهود نحو أهداف واضحة لا تتغير مع تبدّل القادة أو الحكومات.

الانفتاح على العالم

في المحصلة، لم ينجح التخطيط المركزي في الصين نتيجة للمركزية بحد ذاتها، بل أيضًا نتيجة مزيج فريد يجمع بين القيادة السياسية الواضحة، وجهاز إداري كفء، ومجتمع قادر على التعبئة، وانفتاح على العالم، ومرونة اقتصادية عالية.

لم تطبق الصين التخطيط المركزي كما فعل الآخرون، بل أعادت اختراعه وجعلته أداة للتنمية. بدلًا من أن يكون عبئًا عليها، فلم يمنعها الاعتماد على التخطيط المركزي من اختيار مسار منفتح على العالم؛ لذا انضمت إلى منظمة التجارة العالمية وتألقت في جذب الاستثمارات الأجنبية، والاندماج في سلاسل التوريد الدولية، ونقل التكنولوجيا من الشركات متعددة الجنسيات.

استطاعت الصين الجمع بين أفضل ما في النظامين: انضباط التخطيط المركزي وحيوية السوق العالمية؛ فليست التجربة الصينية نموذجًا يمكن استنساخه ببساطة، وإنما تبرهن على نجاح التخطيط المركزي إذا توفرت له البيئة المناسبة، والرؤية الصحيحة، والقدرة على التكيف مع عالم سريع التغير.

د. عاطف الشبراوي

 

 

 

 

الرابط المختصر :
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.