السيادة الغذائية والقرار السياسي
احتلت مسألة ضرورة بلوغ مستوى تملك أسباب السيادة الغذائية، صدارة اهتمام العالم، انطلاقًا من الحاجة الملحة إلى تحقيق الأمن الغذائي على خلفية استقلالية القرار السياسي المرتبط بدواعي الأمن القومي.
قد يعجبك..صبحة بغورة تكتب التنمية الاحتوائية
السيادة الغذائية
انتشر مفهوم السيادة الغذائية على نطاق واسع في العالم بعد الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ تراجع حجم إمدادات البلدين من القمح لكثير من دول العالم؛ فتفاقمت أزمة الغذاء لملايين البشر.
وارتفعت نسب حالات انعدام الأمن الغذائي في المناطق التي تشهد حروبًا وكوارث؛ ما وضع حياة الملايين على المحك، ما بين نازح ولاجئ، يعانون المجاعة، بخلاف الصراعات المسلحة طويلة الأمد التي تتسبب في أسوأ أزمات الغذاء.
غذاء صحي وملائم
وجرى الاتفاق على أن السيادة الغذائية هي حق الشعوب في غذاء صحي وملائم، ينتج بأساليب سليمة بيئية ومستدامة.
مع حقها في تحديد نظمها الغذائية والزراعية؛ إذ يضع هذا التعريف منتجي وموزعي ومستهلكي الغذاء في قلب النظم والسياسات الغذائية، بدلًا من مطالبة الأسواق والشركات بذلك.
كما ينبري للدفاع عن حقوق الأجيال القادمة، ويعرض أهم ملامح استراتيجية مقاومة.
وتفكيك النظام الحالي لتجارة الأغذية والغذاء، ويرسم اتجاهات نظم الأغذية والزراعة والنشاط الرعوي ومصايد الأسماك التي يحددها المنتجون المحليّون.
وتعطي السيادة الغذائية، الأولوية للاقتصادات والأسواق المحلية، وتمكن المزارعين من ممارسة الزراعة.
والصيد الحرفي، والرعي الذي يقوم على إنتاج الأغذية وتوزيعها واستهلاكها على أساس الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية؛ فالسيادة الغذائية تعني حق الشعب في كل بلد في تقرير سياسته الغذائية.
وحقه في تحديد توجهات سياساته واستراتيجيات إنتاج الغذاء وتوزيعه واستهلاكه المستدام، مع احترام ثقافاته وتقاليده ونظمه الخاصة في إدارة موارده الطبيعية ومناطقه الريفية؛ وهو شرط مسبق لتحقيق الأمن الغذائي.
والتناول الموضوعي لهذه القضايا يتطلب الدقة في تحديد المفاهيم والتعريفات، فإذا كان الأمن الغذائي يعني قدرة الدول على الحصول على الغذاء من الإنتاج المحلي أو المستورد، فتكون السيادة الغذائية متعلقة ضمنًا بإمكانيات الدول الخالصة لإنتاج غذائها بكميات كافية لإطعام مواطنيها.
الفجوة الغذائية
ولطالما تسبب تواضع جهود الحكومات لتضييق الفجوة الغذائية بين حجم الإنتاج والاستهلاك في وضعها في ضائقة قد تهددها بفقدان سيادتها الغذائية؛ نتيجة توجهات خاطئة أدت إلى اعتمادها المفرط على الإمدادات الخارجية.
في المقابل، فشلت محاولات العديد من الدول في تحقيق أمنها الغذائي على الرغم من استعانتها بتوجيهات وبرامج منظمة الأمم المتحدة؛ ما أدى إلى ظهور حركة “طريق المزارع” (La Via Campesina) بمدينة مون البلجيكية في مايو 1993، ومقرها الرئيس بالعاصمة الزيمبابوية هراري، كحركة عالمية تدعو للسيادة الغذائية.
وتعارض سياسات الأمن الغذائي؛ لاعتقادها أن طريق الأمن الغذائي محدود النتائج، مسترشدين بفشل تلك السياسات، وتفاقم مظاهر الفقر والجوع في العالم، وتدهور أوضاع المزارعين، خاصة بعد سيطرة الفكر الليبرالي.
حركات دولية
وتجمع حركة “طريق الفلاح الدولية” وحركة la Via Campesina ملايين الفلاحين وصغار المزارعين من جميع أنحاء العالم، وتدافع عن زراعة الفلاحين من أجل السيادة الغذائية؛ كوسيلة لتعزيز العدالة والكرامة الاجتماعية، وتعارض الزراعة التي تقودها الشركات؛ كونها تدمر العلاقات الاجتماعية والطبيعة.
تضم الحركة 182 منظمة محلية في 81 دولة من إفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكتين، لتمثل أكثر من 200 مليون مزارع، وينضم إليها من الوطن العربي نقابات فلاحية ومنظمات تعني بشؤون الفلاحين والنشاط الزراعي.
وفي ديسمبر 2018، استطاعت حركة طريق الفلاح- بالشراكة مع حلفاء دوليين- استصدار إقرار من منظمة الأمم المتحدة بالاعتراف بإعلان حقوق الفلاحين وغيرهم من العاملين في المناطق الريفية؛ ما يعزز دخول السيادة الغذائية للتيار الرئيس للأفكار حول النموذج البديل.
البنك الدولي يحذر
يأتي هذا في الوقت الذي وجه فيه البنك الدولي- أحد أهم المقدمين للمساعدات المالية للدول الفقيرة والنامية- تحذيرات من خطورة انعدام الأمن الغذائي، الذي سيظل يمثل تحديًا متناميًا لسنوات طويلة قادمة.
وتؤكد تقاريره أن تنمية الزراعة الغذائية المحلية، يمكن أن تكون المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي بزيادة الدخل من جهة، وخلق فرص عمل من جهة أخرى.
وأشارت تقارير البنك الدولي إلى فضل الاستثمار في طرق الزراعة بالتقنيات الحديثة التي تتجاوز انعكاسات ظاهرة تغير المناخ.
وعلى رأسها الزراعات المائية، والزراعة المحافظة على الموارد والاستخدام الآمن للمياه.
الزراعة المائية
وينظر إلى شركة التكنولوجيا الزراعية “بيورهارفست”- ومقرها أبوظبي -كلاعب رئيس في هذا المجال؛ إذ تزرع منتجاتها باستخدام الزراعة المائية التي تتيح للمحاصيل النمو على محاليل المغذيات المعدنية، بدلًا من التربة؛ كحل مبتكر لمواجهة ظاهرة التصحر.
وحققت الشركة المرتبة الأولى في مجال آخر عام 2020؛ حيث استثمرت شركة الاستثمار الدولي الكويتية 100 مليون دولار في الشركة؛ ما جعلها أكبر جهة مساهمة على الإطلاق في تخصص التكنولوجية الزراعية في الشرق الأوسط.
الكائنات المعدلة وراثيًا
تُعد الإكوادور أول دولة تعتمد السيادة الغذائية في سبتمبر عام 2008.
وتكرسها في دستورها؛ إذ عرف هذا المفهوم عدة مراحل قانونية لتوسيعه بأحكام جديدة، تضمنت التأكيد على حظر استهلاك الكائنات المعدلة وراثيًا، ومنع استخراج الموارد غير المتجددة في العديد من مناطق البلاد وحمايتها.
كما يحمي القانون- بصيغته الحالية- التنوع البيولوجي كملكية فكرية جماعية، ويعترف بحقوق الطبيعة.
وتبعًا لذلك، دمجت بلدان أخرى السيادة الغذائية في دستورها؛ وهي فنزويلا، ومالي، وبوليفيا، ونيبال، والسنغال، ومصر (دستور 2014).
دفعت الضرورة الدولية، الحكومات إلى سرعة تغيير السياسات العامة لمحاولة سد الفجوة الغذائية الناتجة عن الزيادة السكانية، وضعف نموها الاقتصادي، ولمواجهة آثار الأزمات السياسية، وتداعيات الحروب المسلحة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
ويتحقق ذلك بالتوسع الرأسي أولًا في الزراعة، وزيادة الاستثمار المحلي والأجنبي للقطاع الزراعي.
وتوفير الدعم المالي للمزارعين بالمناطق المعرضة للخطر لمواصلة النشاط.
الاكتفاء الذاتي
وتختلف السياسات المبنية على مفهوم السيادة الغذائية عن تلك القائمة على مطالب تحقيق الاكتفاء الذاتي التي تبنتها معظم الدول العربية خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، في بقاء تركيز هذه السياسات على الجانب الكلي من مفهوم الاكتفاء الذاتي.
كما أنها رفعت معدلات الاكتفاء الذاتي من الحبوب، خاصة باستخدام تقنيات الثورة الخضراء من تسميد واستخدام كثيف للمبيدات؛ ما أثر سلبًا على البيئة.
كذلك جرى التخلي عن البذور المحلية بما أضر بالتنوع البيولوجي، وأثر سلبًا في جهود التحكم في نوعية التقاوي وجودة البذور.
لقد أحدثت الحرب الروسية الأوكرانية قلقًا عالميًا بشأن اختلال الأمن الغذائي في أغلب مناطق العالم.
بعد الارتفاع الجامح غير المسبوق في أسعار المواد الغذائية منذ أزمتي عام 2008 و2011؛ ما أثر سلبيًا في مستوى معيشة شرائح المجتمعات، وكانت الدول العربية الأكثر تأثرًا.
وعلى الرغم من بعض المبادرات المشجعة، إلا أن تحقيق الأمن الغذائي على المدى القريب يبدو مستحيلًا؛ كون العالم لم يتعافَ بعد من تداعيات كورونا.
ولم تنجح السياسات الحكومية في كبح التراجع المطرد في وتيرة نشاط الدولة والمجتمع.
علاوة على أنَّ السلطات لم تتهيأ بعد لمواجهة احتمالات حدوث مجاعة شاملة ومفاجئة، خاصة بعد فشل برامج التنمية الزراعية؛ بسبب الظروف غير المواتية وفي مقدمتها تأثيرات الاحتباس الحراري، وانعكاسات التغير المناخي على البيئة.
صبحة بغورة
مقالات ذات صلة:
صبحة بغورة تكتب.. عـالم المبيعات
الإدارة الحديثة في اتخاذ القرار
التعليقات مغلقة.