الثقافة وإجادة صناعة قــرارات التنمية
طبيعي أن ترتبط جودة أي عملية لصناعة واتخاذ قرارات التنمية بالمستوى الثقافي العام الذي يضم في إحدى بديهياته أسس الثورة المعرفية والتكنولوجية، ومجمل الأفكار حول الأبعاد المكانية والقيم الزمنية العالمية، التي يمكن من خلال دراستها واستيعاب آلياتها تسجيل تأثيراتها في العالم المحيط.
ومن ثمة يمكن فهم طبيعة العلاقة بين مختلف القضايا البيئية وملاحظة اتجاه تدرج تعقيد مشاكلها عبر فترات زمنية معينة صعدًا وهبوطًا، وذلك من أجل تنمية القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب الذي ينبغي أولًا أن يستند إلى إدراك عميق بآثار هذا القرار سواء على حياة الإنسان الشخصية أو سيرورة النشاط المجتمعي أو مسيرة العمل الوطني.
ظهر في عالم اليوم اهتمام خاص بتحديد وتعريف مكونات الثقافة انطلاقًا من إدراك أهمية دورها في مختلف المجالات، كالثقافة السياسية والاقتصادية والإدارية والإعلامية والقانونية وغيرها، ثم ذهب الاجتهاد الإنساني إلى التفكير في أفضل الطرق لتنميتها لتكون معينًا لواضعي سياسات التنمية، ومرشدًا في خدمة صانعي القرارات، وذلك لأن للثقافة أهمية كبيرة ودور عظيم في التمكين لحياتنا الشخصية وتطوير قدراتنا المهنية وتحقيق التوعية في حياتنا المدنية، فالثقافة تساعدنا على فهم طبيعة المكان الذي نعيش فيه ومن ثمة التفكير الصحيح في اتخاذ قرارات مدروسة سواء لتطوير المكان أو تعديله، فمتطلبات البيئة الزراعية ليست هي بالضرورة نفسها في البيئة الصحراوية من حيث تحديد المنتجات والسلع المرغوبة التي يمكن أن توفر الوقت وتقتصد في التكاليف، وكذلك في تقدير الجهود اللازمة لحماية البيئة، والعمل على تحسين الصحة الشخصية للأفراد وتوفير الرعاية الاجتماعية الضرورية لهم، وبالثقافة يمكننا اتخاذ قرارات سليمة في مجال حياتنا العملية تكون على الأقل مناسبة لنوع العمل، مثل الاتجاه نحو تنمية الاستثمارات في البنية التحتية والمنشآت الرئيسية والخدمات القاعدية التي يمكن البناء عليها لرسم استراتيجيات التوزيع والتسويق بما قد يؤدي إلى تخفيض التكاليف المالية وتنمية اقتصاديات المشروع ونجاح العمل.
كما أنها تساعد على اتخاذ قرارات صائبة تجاه القضايا الوطنية المختلفة، ومنها ضمان التأهب لمواجهة الأحداث المنتظرة والمتوقعة بأفضل الوسائل والأساليب والاستعداد للظروف الطارئة والمفاجئة بما يمكن توفيره لتجاوز آثارها ولتقليل خسائرها، كما أن المستوى الثقافي الراقي يضمن الاستجابة الرشيدة لمواجهة المطالب الدولية والشؤون الخارجية لزيادة القدرة على حماية الأمن والسلامة الوطنية وتحسين مستوى المعيشة ونوعية الحياة.
ترتبط قدرة الفرد على اتخاذ القرارات المهمة في الحياة، أولًا على مدى إدراكه للآثار البعيدة المدى لهذه القرارات وفهمه لطبيعتها، وثانيًا على مدى استعداده للتعامل معها وتقبل نتائجها ويفترض هذا أن يكون لديه مستوى معين من الفهم المستند إلى قدرة استيعابه لما يلي:
ــ كيفية عمل العالم المعاش كمجموعة من النظم الفيزيائية والبيولوجية والاجتماعية الحيوية التي تقوم مجتمعة بإنشاء الموارد وتحويلها، مثال النظم الإيكولوجية )البيئية( حيث يتم انتاج المواد الغذائية ونقلها وتحويلها { الزراعة الصناعية} من خلال سلاسل الأغذية ، ومثال قيام أفراد المجتمع في ظل نظم اقتصادية توفر الأجواء المشجعة لبروز المبادرات الحرة بتحويل بعض الموارد الطبيعية إلى أشكال أخرى ذات قيمة اقتصادية يمكن إعادة استخدامها، أو ذات قيمة استهلاكية نافعة يمكن أن تخضع للتداول والبيع.
ويتضح لنا من هذه الأمثلة سهولة فهم أن كل قرار بشري هو خاضع للتأثير المتبادل بين ثقافته في زمانه وبيئته وبين النظم السائدة، ويؤثر فيها.
ــ كيفية ترابط كل مكان في العالم المعاش بالأماكن الأخرى مهما بعدت المسافات، ومن الأهمية فهم دور النظم البشرية والطبيعية في ربط تأثير الأماكن ببعضها البعض، كدور الرياح في الرحلات الجوية وفي نقل انبعاثات محطات توليد الكهرباء وتأثيرها على حموضة الأمطار مثلاً.
ــ إدراك كيفية أن اتخاذ قرارات جيدة مدروسة ينطوي أساسا على تحليل منهجي للنتائج التي تراعي الأولويات بالنسبة للتكلفة المالية والأعباء المادية والقدرات البشرية والمصالح الاجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى بالنسبة للتركيبة البشرية للمجتمعات والبيئة الطبيعية، ليتم على ضوئها تحديد الخيارات أولا، وتوقع نتائج كل منها ثانياً، فالمقارنة بين أفضل الخيارات الملائمة للتطبيق وفق هذه المعايير.
ويتبين مما سبق أن للثقافة مكونات أساسية:
* التفاعل، أي أن يكون الفرد المثقف قادر على التفكير العلمي المنهجي في الطرق التي تعمل بها النظم السلوكية البشرية، والقوانين الطبيعية، وتقدير مدى تفاعلها مع بعضها البعض.
* الترابط، أن يكون الفرد متمتعا بمستوى وعي يمكنه من القدرة على التفكير في الطرق التي يرتبط بها الفرد بالمكان والزمان.
* النتائج، أي الآثار المترتبة على القرارات، بأن يكون الفرد قادرا على تقدير حجمها وتقييمها بشكل موضوعي وصحيح.
ينظر العالم اليوم إلى الثقافة نظرة قد تكون في الكثير من جوانبها مختلفة عن الماضي، إذ لا غنى عنها ولا غنى للمجتمع عن أراء النخب المثقفة وتحليلاتهم وتفسيراتهم واستنتاجاتهم التي أصبحت تعد من المصادر الأساسية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالخطط التنموية أو البرامج التطويرية في أي مجتمع، حيث أن لهم إسهامات أساسية في تطوير كثير من الأفكار والأدوات البحثية ،والبرامج لتوظيف التكنولوجيا في الدراسات الخاصة بالعديد من قضايا ومشاكل المجتمعات، ولكنها قد تظل جهوداً محدودة يغلب عليها الطابع الفردي وتفتقر إلى الرؤية الشاملة ما لم تتدخل المؤسسات بإمكانياتها المادية وأصحاب القرارات والسلطة التنفيذية للعمل على وضع خطط قومية للنهوض بالثقافة وتفعيل دورها الحقيقي في إحداث التنمية وضمان استمراريتها ،ووفقا للتطور الذي طرأ على مستوى الفكر الإنساني فقد تغيرت النظرة لأهمية المثقفين في المجتمع من الناحية العملية والتطبيقية، وذلك بعدما ترسخت أهمية الثقافة في:
دعم جهود التنمية، وتنمية المهارات البشرية على ضوء دراسة احتياجاتهم الحقيقية وخصائص بيئتهم بما يضمن توظيفهم كمواطنين فاعلين في مجتمعهم.
تنمية القدرة على استغلال الظواهر الطبيعية المميزة للمجتمع في المكان بما يحقق الأمن والرفاهية لتلك المجتمعات.
من أبرز أمثلة المشروعات المرتبطة بتطوير الثقافة مشروع مهارات القرن الحادي والعشرين القائم بالتعاون بين المجلس القومي الأمريكي لتعليم الجغرافيا مع منظمة الشراكة من أجل مهارات القرن الحادي والعشرين الهادف من خلال العمل المشترك إلى إعداد خريطة المهارات المرتبطة بالثقافة الجغرافية باعتبارها جزء أساسيًا وهامًا من ثقافة القرن الحادي والعشرين، وتتيح هذه الخريطة الفرصة للطلاب والمعلمين لإجراء عملية الاستقصاء وسبر واستطلاعات الآراء الجغرافية التي تتفق مع الأساليب والمفاهيم المعاصرة لعلم الجغرافيا في دراسة الأرض من حيث خصائصها الطبيعية والبشرية من خلال المعرفة التي تعكس استمرار البحث الجغرافي ونظم المعارف باستخدام التكنولوجيا المناسبة كالمعلومات الرقمية والتمثيلات الافتراضية ، وكذا في المجال الإداري الذي يعكس التركيز على العلاقة الإيجابية بين الناس والبيئة من خلال التفاعلات المستدامة والاستجابة للتغيرات المناخية والتغيرات في التركيبة السكانية وتوافر الموارد الطبيعية وطرق استخدام الأرض ، ويعكس مثل هذا الاهتمام لتطوير الثقافة الجغرافية إرادة مواكبة تطور الفكر الجغرافي من ناحية ، وتلبية مطالب المجتمعات في مواجهة التحديات من ناحية أخرى وذلك اقتناعا بأهمية الجغرافيا في إعداد المواطنين للحياة العملية والمدنية وإعداد متخصصين قادرين على معالجة القضايا الاجتماعية في مجالات الرعاية الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي والصحة البيئية والعلاقات الدولية ، وتنمية قدراتهم على صناعة واتخاذ القرارات.
قد توفر الثروات الطبيعية والموارد المالية، عوامل هامة لتحقيق الاستقرار، ولكنها بدون الثقافة لا تحقق التقدم ولا تضمن القدرة على مواجهة الأخطار، ومن هنا تكمن أهمية العمل الدؤوب في مسار تطوير الثقافة فكرا وبحثا وتعليما من أجل المساهمة الفاعلة في حركة الفكر الإنساني.
صبحة بغورة
التعليقات مغلقة.