منصة إعلامية عربية متخصصة فاعلة في مجال الاقتصاد بروافده المتعددة؛ بهدف نشر الثقافة الاقتصادية، وتقديم المعلومات والمصادر المعرفية السليمة التي تسهم في نشر الوعي الاقتصادي، ومساعدة أصحاب القرار في اتخاذ القرارات الصائبة التي تقود الاقتصاد نحو تنمية فاعلة ومستدامة.

بورصة أبو ظبي | فوتسي

الأسهم الأمريكية | ناسداك

بورصة أبو ظبي | فوتسي

الأسهم الأمريكية | ناسداك

الرابط المختصر :

اقتصاد المشاركة.. وسلوك المستهلك

تدل شواهد تاريخ الحضارة البشرية على أن نشأة البشر وتطور حياتهم قد ارتبط برغبتهم المضطردة في الاستهلاك؛ كفطرة بشرية تسري على كل طبقات المجتمع، ودون حدود؛ لأنها تتعلق بسد الاحتياجات المعيشية المتنامية التي يقوم عليها وجود وبقاء الإنسان.

 

 

قد يعجبك.. قيمـة ثقافـة العمـل

 

 

وتتزايد الرغبة في الاستهلاك طالما هناك شرعية للتملك، وفرصة للاقتناء، وهما سلوكان ملازمان لحضارة الإنسان باختلاف الحضارات؛ فالذهب- الذي لا يسد أي حاجة مباشرة تتعلق بضمان البقاء- انتشر استخدامه في الحضارة المصرية القديمة كسلعة ملكية لعقود طويلة، سبقت أول استخدام نفعي له كعملة وأداة لتخزين الثروة ومقايضة الممتلكات.

 

وكانت الحروب التي تشن تحت شعارات نبيلة تخفي في باطنها غايات أخرى بزيادة ثراء الطرف المنتصر على حساب المغلوب، كما استطاعت الحركات الاستعمارية أن تدوم لقرون وتبلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنها فتحت أسواقًا جديدة أمام سلع الدول المحتلة، وضمنت من جهة أخرى التزود بالمواد الخام اللازمة لمواصلة إنتاج المزيد، بل لم تكن العبودية بسبب استعلاء لون على آخر فقط ، ولكن كانت أيضًا مصدرًا رخيصًا في مزارع القطن وقصب السكر لإمداد الصناعة بكميات تجارية كبيرة منها.
الرأسمالية

 

وليست الرأسمالية سوى أداة لتنظيم العلاقات الاقتصادية بين البشر في جانبها المتعلق بعلاقات الإنتاج بهدف الاستجابة لنزعة الاستهلاك والتملك، ويحسب لها التركيز الشديد على رغبات المستهلك بشكل مباشر؛ إذ جعلته حجر الزاوية في كل التعاملات الاقتصادية؛ ما أدى في النهاية إلى تراجع الناقمين عليها بزعم أن من نتائجها السيئة تفشي المادية في سلوك وقيم البشر.
وما صاغه آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم” يجد صداه في واقع نشاط الإنسان وطبيعة سلوكه؛ إذ يقول ” إن الاستهلاك هو النهاية الوحيدة والغاية من كل عمليات الإنتاج، وإن رخاء المنتج لا يجب الالتفات إليه إلا إذا كان لازمًا لتحقيق رخاء المستهلك”؛ وهو ما يعرف بمصطلح ” سيادة المستهلك” الذي يدل على أن رغبة المستهلك تشكل الغرض الأساس للعملية الاقتصادية.
المحدودية

 

يقابل هذا المسعى بروز مفهوم ” المحدودية” عندما يواجه المستهلكون ظروفًا أو أزمات مزمنة أو مؤقتة تتعلق بمحدودية المصادر؛ أي قلة ذات اليد، وعدم القدرة على الاستهلاك، ولكن الأمر ليس هكذا بالمطلق، وإنما قد يستغني المستهلك عن شراء سلعة، ويفضل أخرى بديلة وأرخص ثمنًا؛ إذ تصف النظرية الاقتصادية، الآلية التي يقرر بها المستهلك اختيار سلعة دون أخرى بأنه اختيار منطقي بُني على تقييم المستهلك لسلعة ما بأنها تعود عليه بأكبر نفع.

 

قانون التكلفة الإضافية

وتبعًا لهذا المنطق وبناء على مفهوم سيادة المستهلك كمحور رئيس في العملية الاقتصادية، فإن على المنتج الخضوع لرغبة المستهلك وتقييمه الذاتي للمنفعة المرجوة من السلعة؛ وذلك بمعرفة أقصى سعر يقبل المستهلك بدفعه،وأن يستمر في إنتاج ذلك المنتَج مادامت تكلفته الإضافية تقل عن المنفعة المرجوة أو تساويها، وهي الآلية المعروفة بـ “ّ قانون التكلفة الإضافية “الذي ينص على أن معدل الإنتاج المثالي هو الذي تتساوى عنده التكلفة الإضافية للإنتاج مع الربح الإضافي المتوقع من بيع المنتَج. ونظرًا لأن الفائدة المرجوة من الاستهلاك تتناقص بزيادة الكمية المستهلَكة، فإن على المنتج أن يواجه سقفًا أعلى لما يمكن إنتاجه، قبل أن تصير سلعته غير ذات نفع.

 

الاستهلاكية

إن الآلية المنطقية لاستهلاك الأفراد، والقائمة على محدودية الموارد لم تؤدِ في الحقيقة إلى محدودية الاستهلاك، بل إن المنتجين وجدوا في “سيادة المستهلك”، و”فطرة التملك” ذريعة لجعل الاستهلاك منفذًا يتجاوز تلبية الحاجات الأساسية، إلى تحقيق رغبات نفسية واجتماعية يستطيع الفرد من خلالها معرفة نفسه، وميوله الشخصية ومكانته في المجتمع، فيما يعرف اليوم بـ “الاستهلاكية”.

 

الثورة الصناعية

أسهمت الانعطافات السياسية والتحولات الاجتماعية بعد الثورة الصناعية خلال القرن الثامن عشر، في إعلاء قيمة السوق كمنفذ تتم عبره معظم التعاملات، ويكتسب من خلاله المنتجون والمستهلكون موقعهم الاجتماعي؛ حيث شملت هذه التحولات التأكيد على الحرية الفردية، وانتهاء العصر الإقطاعي، ونشوء الطبقة المتوسطة؛ وهي الطبقة العاملة من المجتمع والتي لا تملك رأس المال وتستعيض عنه بقوة العمل والمهارات الشخصية وتحويلها إلى أداة للكسب. وقد أفرزت هذه التحولات أيضًا حقوقًا يتمتع بها الفرد، وواجبات يضطلع بها؛ ما رفع من قيمة الفرد، وجعل دور الدولة مجرد حارس ضامن لمكاسب الفرد ورفاهيته.

 

مؤشر الاستهلاك

مع تضخم الآلة الرأسمالية واضطرار غالبية الأفراد إلى الانضمام لمؤسساتها، ارتفع مؤشر الاستهلاك، وتنامى دور السوق كمنفذ يسعى من خلاله الأفراد إلى كسب مكانة اجتماعية فيه؛ حيث كان الاستهلاك يكشف عن طبيعة طريقة تلبية المستهلكين متطلباتهم الحياتية عبر مقايضة ثرواتهم ، بينما كانت الاستهلاكية تصف الطريقة التي يعرف بها الأفراد أنفسهم وموقعهم في المجتمع بتضمينها داخل ممتلكاتهم المادية؛ أي إن نوعية مشتريات المستهلك تدل على مدى رفاهيته والطبقة التي ينتمي إليها.

 

مضاعفة الثروة

يمتد أثر الاستهلاك من تحديد مكانة الفرد اجتماعيًا إلى التأثير على بنية الأنظمة الاقتصادية؛ إذ لم يعد بمقدور الاقتصاديات الحديثة الاعتماد على وحدات النظام الإقطاعي المكتفية بذاتها، أو على الموارد الطبيعية كمورد اقتصادي، بل أصبح الاستهلاك والإنفاق محركين لعجلة الاقتصاد عبر مضاعفة الثروة الناتجة عنه، وإعادة تدويرها من خلال تبادل أدوار الاستهلاك والإنتاج بين أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة.

 

في عشرينيات القرن الماضي، دفع تشاؤم أفراد المجتمع الأمريكي من مستقبل السوق، إلى إحجامهم عن الاستهلاك؛ ما أدى إلى تحول أزمة اقتصادية عابرة إلى كساد عظيم لم يكن نتيجة نضوب المواد الخام أو اكتفاء في الطلب، بل نتيجة أزمة توقعات وإحجام عن الإنفاق، تطلب حلها تدخل الدولة لتشجيع الاستهلاك من جديد وإعادة دفع عجلة الاقتصاد.

 

المكانة الاجتماعية

بقي تنامي الحاجة إلى الاستهلاك والاقتناء، وسيلة لتعريف الأفراد بمكانتهم الاجتماعية، وأداة لضمان بناء النظام الاقتصادي؛ حيث تمثلت استجابة السوق لهده الحاجة بتوفير مزيد من الخيارات السلعية التي تداعب بها الشركات ميول المتسوقين بما يمكن أن يبرز شخصياتهم المستقلة، فإذا كان القصد من التسوق لدى كثيرين هو التفرد وتعريف الذات، فإن كل سلعة ستفقد قيمتها لديهم بمجرد أن تصبح في أيدي العامة؛ أي تكون موضتها قد انقضت، لتولد موضة أخرى تلبي حاجة مُستحدَثة تتيح المجال أمام وفرة الخيارات لسد هذا النقص وإشباع رغبات تتجاوز الفائدة الوظيفية لأي منتج.

 

لقد أصبحت الوفرة بذلك وصفًا ملازمًا للاستهلاكية والرأسمالية على الرغم من أن أفراد المجتمع ما زالوا مقيدين بمعضلة المحدودية المالية وحتمية الاختيارالمناسب للموارد وليس الملائم للأذواق؛ وهي مفارقة تتطلب القدرة على توفير أدوات الدعاية والإعلان عن التحول في سلوك المستهلكين لقبول تغيير المنفعة المرجوة من الاستهلاك، وتقبُّل الثمن المدفوع للحصول عليها.

 

اقتصاد الوفرة

إن النتيجة المستترة لاقتصاد الوفرة يجعل مختلف الخيارات التي تحاكي المنفعة التي يبحث عنها المستهلك، متاحة في شكل عبوة أو خدمة يخبر الآخرين من خلالها عما تمنحه من شعور بصفات متميزة ومرفّهة في المجتمع. وبذلك يتنامى الحرص على الملكية الشخصية، ويزداد الارتباط بين الذات وممتلكاتها، ويصبح التسوق حافلًا بمصطلحات ترضي المستهلك بإضفاء صفات شخصية على السلعة تطابق صفاته أو تلك التي يطمح إلى اكتسابها لتلبية حاجاته النفسية.

 

يحتار الفكر في البحث عن إجابة مقنعة أو إعطاء تصور وافٍ لما يمكن أن يكون عليه الحال لو لم يمكننا الاستمرار بالعيش في نظام اقتصادي يقوم على توفير كل ما يرغب المستهلك في تملكه؛ ففي ظل ثقافة استهلاكية تجعل التملك المادي أسلوبًا لتعريف الذات، يعتقد البعض أن الكساد الأكبر في تاريخ البشرية قد حدث بسبب التوقف عن الاستهلاك، ولكن معطيات الواقع تبين أن الاستهلاك لم يكن وحده المحرك لعجلة الرفاهية والاستدامة، فقد شكّل الاستهلاك فكرة اجتماعية لإشباع رغبات لا علاقة لها بالفائدة الوظيفية المباشرة للمنتج، كما شكّلت قدرة تقنية على توفير منتج يستجيب لكل فكرة قد تخطر على بال المنتج أو المستهلك.

 

ومثال على ذلك: يستهلك الـ 5 % الأغنى من سكان عالم اليوم قرابة 25 % من موارده، ويزداد عدد المستهلكين فيه؛ بسبب تراجع معدلات الفقر وزيادة الانفتاح التجاري، فيما تنفق النساء في الدول الغنية يوميًا على مستحضرات التجميل ما يُعد دخلًا يوميًا للفقراء في الدول النامية، وتبلغ نسبة إهدار الطعام ما بين 30 %ـ 40 % من إجمالي ناتج الغذاء العالمي.
وفي هذا العالم، ترزح العديد من دول الاقتصاد الاستهلاكي تحت ما يُعرَف بـ “الدين الحيوي”؛ أي الدول التي يتجاوز استهلاكها من المواد الخام ما يفوق إنتاجها، أو يزيد عن طاقتها الحيوية عبر الاستيراد من دول أخرى.

 

النظام الحيوي

تدرك كثير من الأنظمة الاقتصادية وجموع المستهلكين وأوساط المنتجين أنه ليس بمقدور النظام الحيوي الاستمرار في إمداد السوق بكل ما يرغبه المستهلك، ما دام الثمن الذي يستعد لدفعه يتجاوز التكلفة الإضافية لتقديم ذلك المنتج، وإن كانت المدرسة الرأسمالية التقليدية ترى أن آلية اقتصاد السوق ستفعل فعلها؛ فيصحح السوق نفسه برفع الأسعار كما هو معروف في حالات الندرة.

 

ولكن هده الآلية لا تقدم حلًا دائمًا يمكن أن يجمع بين تلبية رغبة ورفاهة المستهلكين وضمان استدامة الاستهلاك، كما أن الدعوة إلى ترشيد الاستهلاك والتخلي عن الإسراف في المادية لا تبدو حلًا يستوعب الحاجة البشرية الطبيعية إلى الاستهلاك، أو أن يضمنها ولو في قلب آخر من أشكال التبادل الاقتصادي .

 

اقتصاد المشاركة

في مقابل هذا، يبرز ما يُعرف بـ ” اقتصاد المشاركة “أو ” اقتصاد التكلفة الإضافية الصفرية ” متزامنًا مع تطبيقات تجارية واسعة تهدف في مجموعها إلى مشاركة الموارد والخبرات بين المستهلكين والمنتجين بشكل يضمن تقنين الاستهلاك وجعله أكثر استجابة لحاجات المستهلك الحقيقية، والتقليل من الفائض المهمل للاستهلاك غير الرشيد.

 

يقوم اقتصاد المشاركة على استثمار تقنيات التواصل الإلكتروني لتحويل المستهلكين التقليديين إلى منتجين؛ بإعادة مشاركة مواردهم مع مستهلكين آخرين دون الحاجة إلى استثمار جديد أو تكلفة إنتاج إضافية.

 

ومن أبرز تطبيقات هذا الاقتصاد: خدمة سيارات الأجرة بالهاتف؛ حيث يستخدم فيها العملاء سياراتهم لتوصيل الركاب “أوبر”، أو المواقع الإلكترونية لأشخاص يعرضون تأجير مساكنهم لفترات زمنية محدودة؛ أي إنها تطبيقات تمكّن المستهلكين التقليديين من مشاركة ممتلكاتهم مع مستهلكين آخرين دون الحاجة إلى وسيط.

 

ولا يُعد اقتصاد المشاركة حالة تعارض فطرة الاستهلاك أو تحقيق الربح عبر التعاملات الاقتصادية، فوسيط هذه التعاملات هو المقايضة النقدية، وما يتم مشاركته في نهاية الأمر ممتلكات خاصة.

 

ويمنح اقتصاد المشاركة أفراد الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل فرصة التحكم في الطريقة التي يكسبون من خلالها دخلهم وموقعهم المعيشي في النظام الاقتصادي والاجتماعي؛ وهي الفرصة التي قد تقلل من أهمية الاستهلاك في بناء العلاقات الاجتماعية وتعريف أفراد المجتمع ببعضهم البعض.

 

التسوق العصبي

هناك استشعار حقيقي لأهمية هذا النمط من التعامل الاقتصادي في مواجهة التحديات التي تواجه عملية الاستهلاك والإنتاج وتقنين الاستهلاك، ولعل ما أُنجِز في مجال “التسوق العصبي”- أي علم قراءة ما يدور في عقل المستهلك- هو خطوات هامة في فهم سلوك المستهلكين؛ وبالتالي تحقيق مواءمة أكبر بين رغبات المستهلكين وبين مستوى نفقاتهم؛ أي التوفيق بين المعنوي المأمول والممكن المادي؛ ما قد يزيد من وعي المستهلكين للفائدة الحقيقية لما يستهلكون، ويزيد من جهة أخرى تركيز جهود المنتجين على المنتجات التي تحقق أعلى نفع ممكن للمستهلك.

 

نظام اقتصادي جديد

المشاركة ليست فكرة جديدة، بل كانت الأساس الذي بنيت عليه الاقتصادات البشرية الأولى، حين مكّنت أفراد المجتمعات البدائية من الاعتماد على بعضهم في توفير احتياجاتهم؛ إذ استطاعت الاستهلاكية إعادة اختراع أدواتها مرات عديدة باختلاف الظروف الاقتصادية، ودفعت محدودية الموارد الحيوية التي تواجه اقتصاد الوفرة وترفع من تكلفة نمطه الاستهلاكي إلى ولادة نظام اقتصادي جديد يستجيب لهذه التحديات، ويلبي فطرة الاستهلاك التي ظلت ملازمة للحضارة البشرية؛ لذا يُعد اقتصاد المشاركة- الذي يرفع من كفاءة ووتيرة الاستهلاك ويزيد من الفائدة المرجوة من التملك- حلًا يلوح مستقبله في الأفق.

 

 

مقالات ذات صلة:

صبحة بغورة تكتب.. عـالم المبيعات

الأغذية العضوية أم المعدلة وراثيًا؟

صبحة بغورة

الرابط المختصر :

التعليقات مغلقة.